كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلَا يُبَالِي أَصْحَابُ هَذَا الْجَوَابِ بِمُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [15: 9] ثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهَا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا نُسِخَتْ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ: إِنَّهَا كَانَتْ تُقْرَأُ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّسْخُ. وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ وَأَبْعَدُ عَنْ مَثَارِ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ بِرِوَايَةٍ آحَادِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْمُتَبَادِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ. وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: إِذَا صَحَّ هَذَا: فَمَا هِيَ حِكْمَةُ نَسْخِ الْعَشْرِ بِالْخَمْسِ عِنْدَ عَائِشَةَ، وَمَنْ عَمِلَ بِرِوَايَتِهَا، وَنَسْخِ الْخَمْسِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ قَبِلَ رِوَايَتَهَا وَادَّعَى أَنَّ الْخَمْسَ نُسِخَتْ أَيْضًا بِنَسْخِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ؟ لَعَلَّ أَظْهَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِهِ عَنْ هَذَا هُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا هِيَ التَّدْرِيجُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ كَمَا وَقَعَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، بَلْ لَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ شَيْءٌ آخَرُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولُوهُ، وَإِذَا أَنْصَفُوا رَأَوُا الْفَرْقَ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الرَّضَاعِ وَاسِعًا جِدًّا، فَإِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يُؤَثِّرُ فِي الْعَصَبِ تَأْثِيرًا يُغْرِي الشَّارِبَ بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ حَتَّى يَشُقَّ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فَجْأَةً، وَلَا كَذَلِكَ تَرْكُ نِكَاحِ الْمُرْضِعَةِ أَوْ بِنْتِهَا مَثَلًا، ثُمَّ إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ- وَهِيَ كَوْنُ بَعْضِ بِنْيَةِ الرَّضِيعِ مُكَوَّنَةً مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَهُ- تَتَحَقَّقُ بِالرَّضْعَةِ، أَوِ الثَّلَاثِ، أَوِ الْخَمْسِ فَكَيْفَ يَجْعَلُهَا الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَشْرًا، ثُمَّ خَمْسًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهَا، وَيَدَّعِي نَسْخَهَا؟ وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ يُقَالُ: مَنِ اسْتَفَادَ مِنْ هَذَا التَّدْرِيجِ فَتَزَوَّجَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا، أَوْ بِنْتَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا تِسْعًا، أَوْ ثَمَانِيَ أَوْ سَبْعًا أَوْ سِتًّا؟ ثُمَّ مَاذَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ نَسْخِ الْعَشْرِ؟ هَلْ فَارَقُوا أَزْوَاجَهُمْ، أَمْ عُفِيَ عَنْهُمْ، وَجُعِلَ التَّحْرِيمُ بِمَا دُونَ الْعَشْرِ خَاصًّا بِغَيْرِهِمْ؟
الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِهَذَا النَّسْخِ حِكْمَةٌ، وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْعِلَّةِ، وَإِنَّ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ عَائِشَةَ لَأَهْوَنُ مِنْ قَبُولِهَا مَعَ عَدَمِ عَمَلِ جُمْهُورٍ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ بِهَا كَمَا عَلِمْتَ، فَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ رِوَايَتَهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمِثْلِ الْبُخَارِيِّ، وَبِمَنْ قَالُوا بِاضْطِرَابِهَا خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ مَعْنَاهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَوَ لَيْسَ رَدُّ عَمْرَةَ، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِهَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِنُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَلَا فَائِدَةٌ، تَمَّ نَسْخُهُ، أَوْ سُقُوطُهُ، أَوْ ضَيَاعُهُ، فَإِنَّ عَمْرَةَ زَعَمَتْ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَرَى أَنَّ الْخَمْسَ لَمْ تُنْسَخْ، وَإِذًا لَا نَعْتَدُّ بِرِوَايَتِهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْمُخْتَارُ التَّحْرِيمُ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ إِلَّا الْمَصَّةَ وَالْمَصَّتَيْنِ إِذْ لَا تُسَمَّى رَضْعَةً فِي الْغِذَاءِ، وَبِمَعْنَاهَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَلْجِ الْوَلِيدِ الثَّدْيَ إِذَا مَصَّهُ وَأَمْلَجَتْهُ إِيَّاهُ جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ، فَإِنْ رَضَعَ رَضْعَةً تَامَّةً ثَبَتَتْ بِهَا الْحُرْمَةُ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
وَفِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ لِلنِّكَاحِ بَحْثٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِسِنِّ الرَّضِيعِ، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي سِنِّهِ، وَمُدَّتِهِ الْمَحْدُودَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [2: 233] وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الظَّاهِرِيَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ مَا كَانَ قَبْلَ الْفَطْمِ، فَإِنْ فُطِمَ الرَّضِيعُ، وَلَوْ قَبْلَ السَّنَتَيْنِ امْتَنَعَ تَأْثِيرُ رَضَاعِهِ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ رَضَاعُهُ إِلَى مَا بَعْدَ السَّنَتَيْنِ، وَلَمْ يُفْطَمْ كَانَ رَضَاعُهُ مُحَرَّمًا، وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ تَصِحَّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُ فِي الْفِطَامِ لِحَوْلٍ ثُمَّ الرَّضَاعِ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِي، قَالَ: إِنْ تَمَادَى فِيهِ كَانَ مُحَرِّمًا، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ يُؤَثِّرُ فِي الصِّغَرِ دُونَ الْكِبَرِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا تَحْدِيدًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.
وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ إِلَى التَّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ شَيْخًا، وَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَقَالَ بِهِ عُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سَعْدٍ، وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ فِي وَاقِعَةِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي مُسْلِمٍ، وَمُفَصَّلَةٍ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي الْوَاقِعَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَتُجْلِي مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهَا، فَيُعْرَفُ أَمْثَلُهَا، وَهُوَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنَّى سَالِمًا، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَكَانَ يُدْعَى ابْنَهُ، فَلَمَّا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ التَّبَنِّيَ صَارَ سَالِمٌ أَجْنَبِيًّا مِنْ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فِرَاقُهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ وَصَارَ مِنَ الْحَرَجِ دُخُولُهُ عَلَى بَيْتِ أَبِي حُذَيْفَةَ كَمَا كَانَ يَدْخُلُ، وَامْرَأَتُهُ فِي مِهْنَتِهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِبْدَاءِ شَيْءٍ مِنْ زِينَتِهَا الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِبْدَاءَاهَا لِغَيْرِ الْمَحَارِمِ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي، وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فَضْلًا (أَيْ فِي فَضْلِ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ وَقْتَ الشُّغْلِ، أَوِ النَّوْمِ)، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ هَذَا سِيَاقُ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ تَعْنِي مِنْ حِلِّ دُخُولِهِ بَعْدَ تَحْرِيمِ التَّبَنِّي لَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ فِي عِفَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مَكَانَ الِابْنِ مِنْ قُوَّةِ دِينِهِ، وَتَقْوَاهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ هِيَ، وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْفَاضِلَاتِ. فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا سَقَتْهُ لَبَنَهَا فِي إِنَاءٍ.
يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي مَعْنَاهُ مَا أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» وَحَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» وَمَعْنَى فِي الثَّدْيِ فِي زَمَنِهِ أَيْ سِنِّ الرَّضَاعَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» يُرْوَى «أَنْشَرَ» بِالرَّاءِ أَيْ بَسْطَهُ، وَمَدَّهُ، وَأَنْشَزَ بِالزَّايِ وَمَعْنَاهُ رَفَعَهُ. وَبَسْطُ الْعِظَامِ وَارْتِفَاعُهَا كِلَاهُمَا يَكُونَانِ بِنُمُوِّهَا، وَالْكَبِيرُ لَا تَنْمُو عِظَامُهُ، وَتَرْتَفِعُ بِالرَّضَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْغَذَاءِ- وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَأَفْتَى بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ.
قَالَ بَعْضُ الذَّاهِبِينَ إِلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ فِي الْكِبَرِ لَاسِيَّمَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ: إِنَّ حَدِيثَ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ حِينَ حُرِّمَ التَّبَنِّي، وَإِنْ خَفِيَ نَسْخُهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِسَالِمٍ، وَالتَّخْصِيصُ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ الْحُكُومَاتِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْقَوَانِينِ وَيُسَمُّونَهُ الِاسْتِثْنَاءَ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: لَيْسَ حَدِيثُ سَهْلَةَ بِمَنْسُوخٍ، وَلَا مَخْصُوصٍ بِسَالِمٍ، وَلَا عَامٍّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لِمَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ سَالِمٍ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَهْلِهِ فِي عَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ دُخُولِهِ عَلَى أَهْلِهِ؛ أَيْ مَعَ انْتِفَاءِ الرِّيبَةِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَاجَةِ تَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَكَمْ مِنْ بَيْتٍ كَرِيمٍ يَثِقُ رَبُّهُ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ خَدَمِهِ قَدْ جَرَّبَ أَمَانَتَهُ، وَعِفَّتَهُ، وَصِدْقَهُ مَعَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى إِدْخَالِهِ عَلَى امْرَأَتِهِ، أَوْ إِلَى جَعْلِهِ مَعَهَا فِي سَفَرٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ صِلَتَهُ بِهِ، وَبِهَا بِجَعْلِهِ وَلَدًا لَهُمَا فِي الرَّضَاعَةِ بِشُرْبِ شَيْءٍ مِنْ لَبَنِهَا مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِحِكْمَتِهَا أَلَا يَكُونَ أَوْلَى! بَلَى وَإِنَّ هَذَا اللَّبَنَ لَيُحْدِثُ فِي كُلٍّ مِنْهُمْ عَاطِفَةً جَدِيدَةً.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُحَرَّمَاتُ الْمُصَاهَرَةِ، أَيِ الَّتِي تَعْرِضُ بِسَبَبِ الزَّوَاجِ، وَتَحْتَهُ الْأَنْوَاعُ الْآتِيَةُ قَالَ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} يَدْخُلُ فِي الْأُمَّهَاتِ أُمُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ وَجَدَّاتُهَا، وَيَدْخُلُ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَدْخُلُ بِهَا الرَّجُلُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا تَدْخُلَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [2: 223] وَقَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [2: 187] وَقَوْلِهِ: {لَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [2: 231] وَلَا قَوْلِهِ: {لِلَّذِينِ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [2: 226] لِأَنَّ الطَّلَاقَ، وَالْإِيلَاءَ خَاصٌّ بِالزَّوْجَاتِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي تَحْرِيمِ أُمِّ الْمَرْأَةِ دُخُولُهُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْتَرِطِ الدُّخُولَ هُنَا كَمَا اشْتَرَطَهُ فِي بِنْتِهَا كَمَا يَأْتِي، وَهِيَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَكُونُ مِنْ نِسَائِهِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا. وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ فَلَا تُعَدُّ مِنْ نِسَائِهِ إِلَّا إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا وَحِينَئِذٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} يَدْخُلُ فِيهِ تَحْرِيمُ بَنَاتِ امْرَأَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ حَتَّى عَامَّةُ الْمُوَلَّدِينَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَنَاتُ بَنَاتِهَا، وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا، وَإِنْ سَفَلْنَ؛ لِأَنَّهُنَّ مِنْ بَنَاتِهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ أُمُّ زَوْجَةِ الِابْنِ وَبِنْتُهَا، وَالرَّبَائِبُ: جَمْعُ رَبِيبَةٍ، وَرَبِيبُ الرَّجُلِ وَلَدُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، سُمِّيَ رَبِيبًا لَهُ لِأَنَّهُ يَرُبُّهُ كَمَا يَرُبُّ وَلَدَهُ أَيْ يَسُوسُهُ، فَهُوَ مَعْنَى مَرْبُوبٍ، وَالْقَاعِدَةُ أَنْ يُقَالَ فِي مُؤَنَّثِهِ رَبِيبٌ كَمُذَكَّرِهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ رَبِيبَةٌ لِأَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا. وَالْجَمَاهِيرُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} وَصْفٌ لِبَيَانِ الشَّأْنِ الْغَالِبِ فِي الرَّبِيبَةِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا (وَالْحِجْرُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الْحِضْنُ، وَهُوَ مَكَانٌ مَا يَحْجُرُهُ وَيَحُوطُهُ الْإِنْسَانُ أَمَامَ صَدْرِهِ بَيْنَ عَضُدَيْهِ وَسَاعِدَيْهِ) كَمَا قَالَ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [17: 31] لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْتُلُونَهُمْ إِلَّا مِنْ خَشْيَةِ الْفَقْرِ، أَوْ مِنَ الْفَقْرِ وَذَلِكَ لَيْسَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ، فَلَوْ قَتَلُوهُمْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَانَ مُحَرَّمًا أَيْضًا. وَيُقَالُ: فَلَانٌ فِي حَجْرِ فُلَانٍ أَيْ فِي كَنَفِهِ وَرِعَايَتِهِ، قَالُوا وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ جَعْلِ الرَّبِيبَةِ فِي الْحِجْرِ حَقِيقَةً أَوْ تَجَوُّزًا، كَأَنْ تَكُونَ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنْ زَوْجِ أُمِّهَا يَخْلُو بِهَا، وَيُسَافِرُ مَعَهَا، وَيُعَامِلُهَا بِكُلِّ مَا يُعَامِلُ بِهِ بِنْتَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِإِشْعَارِ الرَّجُلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُوَضِّحُ لَهُ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ، وَيُقَرِّرُهَا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُ بِنْتِ زَوْجَتِهِ فِي مَكَانِ بِنْتِهِ؛ لِأَنَّ زَوْجَتَهُ كَنَفْسِهِ فَفَرْعُهَا كَفَرْعِهِ، فَهُوَ وَصْفٌ يُحَرِّكُ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ فِي الرَّجُلِ، وَهُوَ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِهِ يَحْنُو عَلَيْهَا حُنُوَّهُ عَلَى بِنْتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.
وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَيْدٌ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَةُ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كَانَ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَتُوُفِّيَتْ وَقَدْ وَلَدَتْ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهَا (أَيْ حَزِنْتُ) فَلَقِيَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: تُوُفِّيَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَ: لَهَا بِنْتٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَهِيَ بِالطَّائِفِ، قَالَ: كَانَتْ فِي حِجْرِكَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: انْكِحْهَا. قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}؟ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِكَ إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِكَ وَيُرْوَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّتِي لَا تَكُونُ فِي حِجْرِهِ لَا تَكُونُ رَبِيبَةً لَهُ فِي الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرُبُّهَا وَلَا يَسُوسُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يَجِدُ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا، أَوْ لَا تَجْتَمِعُ مَعَهَا عَاطِفَةُ الشَّهْوَةِ، فَالِاحْتِيَاطُ عِنْدِي أَلَّا يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَخْلُوَ بِهَا، وَلاسيما إِذَا لَمْ يَجِدْ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَةَ تَحْرُمُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ تَفْرِيعٌ لِبَيَانِ مَفْهُومِ مَا قُيِّدَ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَلَوْ كَانَ الْكَوْنُ فِي الْحُجُورِ قَيْدًا أَيْضًا لَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، أَوْ لَمْ تَكُنْ رَبَائِبُكُمْ فِي حُجُورِكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ. وَالْجُنَاحُ فَسَّرُوهُ بِالْإِثْمِ، وَعِنْدِي أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالتَّضْيِيقِ، وَالْأَذَى أَحْكَمُ، وَأَوْلَى، قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْجُنَاحُ مَا تَحْمِلُ مِنَ الْهَمِّ، وَالْأَذَى، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
وَلَاقَيْتُ مِنْ جُمْلٍ وَأَسْبَابِ حُبِّهَا ** جُنَاحَ الَّذِي لَاقَيْتُ مِنْ تِرْبِهَا قَبْلُ

وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ وَلَا تَضْيِيقَ. اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَقَدَ نِكَاحَهُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا.
وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ نَظَرَ إِلَى مَا هُنَالِكَ مِنْهَا بِشَهْوَةٍ، بَلْ قَالُوا أَيْضًا: إِذَا لَمَسَ يَدَ أُمِّ امْرَأَتِهِ فِي حَالِ الشَّهْوَةِ، وَلَوْ خَطَأً فَإِنَّ امْرَأَتَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَأَلْحَقُوا ذَلِكَ بِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْقِيَاسِ وَتَوَسَّعُوا فِي ذَلِكَ تَوَسُّعًا ضَيَّقُوا فِيهِ تَضْيِيقًا! وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَبِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُنَافِي ذَلِكَ فَاللَّوَاتِي يُزْنَى بِهِنَّ، أَوْ يُلْمَسْنَ، أَوْ يُقَبَّلْنَ، أَوْ يُنْظَرُ لَهُنَّ بِشَهْوَةٍ لَا يَصِرْنَ مِنْ نِسَاءِ الزُّنَاةِ، أَوِ الْمُتَمَتِّعِينَ مِنْهُنَّ بِمَا دُونَ الزِّنَا، فَعِبَارَةُ الْقُرْآنِ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِنَصِّهَا، وَلَا فَحْوَاهَا، وَحِكْمَةُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَعِلَّتُهَا لَا تَظْهَرُ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ هُوَ مِمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَحْيَانًا، وَمَا كَانَ الشَّارِعُ لِيَسْكُتَ عَنْهُ فَلَا يَنْزِلَ بِهِ قُرْآنٌ، وَلَا تَمْضِيَ بِهِ سُنَّةٌ، وَلَا يَصِحَّ فِيهِ خَبَرٌ، وَلَا أَثَرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَانُوا قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَ الزِّنَا فِيهَا فَاشِيًّا بَيْنَهُمْ، فَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْرَكًا فِي الشَّرْعِ، أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهِ عِلَلُهُ، وَحِكَمُهُ لَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مَا يُفْتُونَ بِهِ.